Yassin Adnan (ياسين عدنان)
دفتر العابر - بازل / برلين
دارُوا ماءَكم أيها الهاربُونَ
بعيدًا
عن جُثةِ الأندلسْ
دارُوا ماءكم وعودوا خِفافًا
إلى تَلَّةِ الأُنس
إلى فَجِّ الأغنية
في بازل Basel، يسمونها بالفرنسية بَالْ Bâle، كان الليلُ ربيعًا ساحرًا، إِثْرَ عَشاءٍ شرقيٍّ ببهو متحفِ الثقافات. بعد أن قرأنا شعرًا وشرَبنا بضع كؤوس، عُجْتُ على كباريه نيغريسكو Negresco. هناك التقيتُكِ روسانا: هل كنتِ كرواتيّةً؟ أم قلتِ من أوكرانيا؟ أما أنا فمن القدس، هكذا زعمْتُ. كنتُ أفكّر في محمود درويش. مُتحمِّسًا للحديث عن فلسطين حتى مطلع الفجرِ. لكن روسانا باغتَتْني: أكرهُ العرب، وأحبُّكم أنتمُ اليهود (ألم أقُلْ من القدس؟) لأنكم ماهرون في الطب والرياضيات. وأضافت البنتُ ذاتُ الكذا وعشرين أنَّ في الطابقِ العُلْويِّ من الحانة مجلسًا حميمًا يُطلُّ على الرَّاين. حَقُّها هي 150 فرنكًا. وحقُّ المحلِّ زجاجةُ شمبانيا بـ150 أخرى. وأضافت روسانا: أتعاطفُ مع اليهودِ وأحببتُ ابتسامتكَ ولن أعامِلكَ كزبون. وحين ترددتُ شجَّعَتْني: الأهمُّ شمبانيا المحل، أما أنا فليِّنةٌ ويُمكنني التفاوُض. لم يكن في جيبي أكثر من 120 فرنكًا سويسريًّا وعشرة أوروهات. هكذا أضعتُ يا روني سوميك1 فرصةَ الإبحار كيهوديٍّ مُزيَّفٍ في لحم الشمال؟ فاتني أن أرشُفَ ماءَ التعاطف الزُّلال مع "مأساة شعبك المسكين" من شفتَيْ روسانا النَّدِيَّتين.
صارَ الجوُّ أبْرَدَ في الخارجِ
وكان الرَّاين
يتقَلَّبُ في سريرهِ الهامِدِ
كلُّ الأنهارِ اختارَتْ
أن تَصُبَّ بعيدًا عن حِكاياتِ الشَّرق
بعيدًا عن نَضْرَةِ القَصَبِ
وشَجَنِ النّاياتْ
بعيدًا عن الفِردَوْسِ
الذي فرَّقَنا
دارُوا ماءَكم أيها الهاربُونَ
بعيدًا
عن جُثةِ الأندلسْ
دارُوا ماءَكم وعودوا خِفافًا
إلى فَجِّ الأغنية
"وانا راني مشيت
والهَوْل ادَّاني
والديَّ واحْبَابي ما سْخَاو بِيَّ
بحر الغيوان
ما دخلتُو بلْعَاني"2
بحرُ الغيوان
بحرُ الدراويش الجُدُد
بحرُ الأسْرارِ
نجومِ الفضةِ
والزوارِقِ الهشَّةِ
بحرُ القناديلِ الخافتة
والليلِ المصْلوبِ على أعْجازِ الرِّيح
بحرُ الخديعة والأهوال
كم كانتِ الأندلُسُ بعيدةً
أما أنا فقصَدْتُ الفندُقَ عاريًا
بلا أجْنِحةٍ
فارغًا من الحَكَايا
وكانتِ
الصُّوَرُ القديمةُ قد خَثرَتْ
بين عينَيّْ
ثمَّ
رحَلْنا إلى جنَّةِ النار
كنا نَفْلَحُ داليَةَ الموَشَّح ِ
فنتعثَّرُ بالدِّنان
نتفقَّدُ طوْقَ الحمامة فيغلِبُنا
الهَدِيل
نبكي غرناطةَ فنشتهي
الرُّمَّان
نرْثي رنْدَةَ
ونترحَّمُ على أبي البقاء3
كأنَّا لم نُغادِر قَطّ
كأننا
ما زلنا هُناكْ
في مقهى صغيرٍ قرْبَ السيفيني بلاتز Savigny Platz التقَيْنا. دعتني إلى كأسٍ فبادَرْتُها باثنتين. كرمُكَ مُتشنِّجٌ ومُريبٌ، قالتْ. ثم إنَّ صديقها ينتظرُ الآن في مقهى آخرَ بساحةٍ أخرى في الجزءِ الشرقيِّ من المدينة وعليها أن تذهبَ فورًا.
- أقصدُ بَعْدَ هذه الكأسِ. ستكونُ الأخيرةَ. اتفقنا؟
أما أنا فلم أتَّفِقْ. كنتُ فقط أُحدِّق في عينيها وأبكي في السرِّ غُربةَ هذي الرُّموش. ثم همسَتْ
أنَّ اسمَها عليا وأنها
مِنْ هُنا
(تقصِدُ من برلينْ)
فكرتُ بالأغنيهْ:
"يخرب بيت عيونك يا عَلْيَا شو حلوينْ.."4
لكنَّ علياء ألمانيةٌ الآن. عليك أن تفهم هذا جيِّدًا. أعِدْ خريطةَ الأندلس إلى جِرابِك أيها الحاوي وافهم الدرس. اسمي عليا. ولا شأنَ لي بالأغنيهْ. حبيبي الذي يدْرُس المحاماة سيتخرَّج بعد أشهُرٍ. سأترشَّحُ للانتخابات مع حزب الخُضْر ولديَّ مشاريعُ أخرى. فقط انْسَ الأغنيهْ. هل تذكرُ رقم المترو الذي سيُعيدُك إلى تيودر هاوس بلاتزTheodor-Heuss-Platz ؟ هناك في أقصى الجانب الغربيِّ من المدينة حيثُ الحياةُ عجوزٌ طاعنةٌ في السُّكون وحيث عليك أن تسهرَ وحدك أمام الكومبيوتر. تقرأُ الصُّحف العربية على النِّتّ وترُدُّ على إيميلات الجنوب. لكن هل تذكرُ رقم المترو الذي سيعود بك إلى غرفتكَ الصغيرة هناك في تيودر هاوس بلاتز؟
لم أَسْألها عن اسْمِها
كنا نركُضُ
من ريحٍ إلى ريحٍ
وكانت قد تعَرَّتْ
من خَطْوِها وبياضِ ساقَيْها
وتناءَتْ مثل هفْهَفةٍ
في الفضاء
لم أكنْ أعْتمِرُ
غيرَ شمسٍ صغيرةٍ
ولا ارتديْتُ ظِلالي كُلَّها
لكنّها هَمَّتْ بي
بعُشبِ سَريرتي
بحَليبِ أغصاني
ظلَّتْ تجذِبُني من فرعِيَ المكسُور
تطلبُ أن أصيرَ زيتونةً
لأجْلِ زَرازِير عينَيْها
غير أنِّي فقَدْتُ عادَةَ الزَّيتونِ
وغادَرَتْنِي الأنْدَلسْ.