Aref Hamza (عارف حمزة)
مثل سيروم معلّق في يدها
مثل سيروم معلّق في يدها
يأتي البطّ إلى طرف البحيرة عندي
ثمّ يعودُ خائباً.
عشرات المرّات فعل ذلك
طوال الأسابيع التي جلستُ هنا
كي أُنصتَ لقلبي.
ربّما يظنّ بأنّني تغيّرت
ثمّ يعودُ سريعاً إلى الضفّة الأخرى
حيثُ الشّابّة الألمانيّة تنزّه كلبها
تتحدّثُ معه وتنصتُ إليه
وخلال ذلك تُطعمُ البطّ.
أما أنا فلا أتغيّر
أبقى جالساً في مكاني
أُنصتُ "لكلبكِ"!!.
2
نجونا من القصف
وصارت حياتُنا أبعد
مِن أنْ نستعيدَها.
كانوا مثل نباتاتٍ منزليّة
وكنّا مثل حشائش في العراء
الحياة فقط
كانت تفصلُ بيننا.
3
أجلسُ في الساحة العامة "لبوخهولز" بين معطوبي الحروب
ومثلهم أراقبُ الحياة التي تخصّ غيرنا
ومثلهم أنتظر غروب الشمس لنمشي
دون أن يكتشفَ
وحدتنَا أحد.
4
في هذه الليلةِ أُشبهُ النساء الوحيدات المهجورات
على الكرسيّ الهزّاز
في هذا البيت الخشبيّ من البلاد الباردة
كان ينقصني
تعلّمُ صُنعِ جواربَ صوفيّة
لأولاد الآخرين.
5
كنتُ أحبّ
أن تكونَ الحياةُ طويلة
مثلَ التفاتتكِ إليّ.
6
أنا وحيدٌ الآنَ
لم يعد لديّ بلد.
جارتي أصبحتْ وحيدة
لم يعد لديها كلب.
7
لن أعودَ لبلدي مواطناً سوريّاً
إذا انتهت الحرب
لا كرديّاً و لا عربيّاً.
سأعودُ إليهِ لاجئاً.
8
صباح الخير أيّتها النسورُ الكبيرة
التي تُشاهد جثث بلدي
ومن مكانها البعيد تتحسّر.
9
ثلاثةُ أرباعِ الساعة أمشيها في الغابةِ ذهاباً
ومثلها في العودة.
لزمني يومان فحسب
حتى صارتْ الأشجارُ
تُعذّبني
باسمكِ.
10
صرتُ أستلمُ حياتي عِبرَ صندوق البريد.
عبرَ الصندوق الذي تركتُه
في المدينة الأخرى
منذُ شهرين.
11
أسهرُ على جسدي المريضِ
مثلَ سجّان.
12
من كثرة ما جرى نهرُ جافٌّ في عينيّ
تكادُ هذه الأنهارُ الغزيرة
أنْ تجفَّ.
/
في القطارتِ كنتُ أبكي
ثمّ نزحتُ إلى بلدٍ
حتى الأشجارُ فيه قطارات.
/
تلكَ البطّة النافقةُ
على شاطئ البحيرة
تُقلّدني.
13
كانت هناكَ أظافرُ مقصوصةٌ في أصص الورد
وأسنانٌ لبنيّةٌ
لم يجدوا الوقتَ
كي يرموها في عينِ الشمس.
وأتذكّرُ دفتراً وقعَ من صبيّةٍ
وهي تتمزّقُ من لطمةِ البارود
وبقيَتْ الريحُ
تُقلّبُ صفحاتهِ
للعينِ التي
تدحرجَتْ إليه!.
14
لم يعدْ الفلاحونُ يتابعونَ نشرةَ الطقسِ منذ سنوات.
ما عادتْ السماءُ تهمّنا في شيء
وصرنا ندفنُ أولادنا
بدلَ
بذارِ المحاصيل.
15
يبدو أنّ الحياة
لديها أعمالٌ
أكثرُ أهميّةٍ
من حياتنا.
16
هاجرَ كلُّ السربِ إذاً
وتركَ لي "إوزّة" مريضة عندَ البحيرة المتجمّدة
وصارَ عملي الوحيد
أن أضعَ البحيرة في كفّة الميزان
المقابلة لكفّة حزنها.
وصرتُ أمرضُ
ونحنُ ننظرُ إلى الأصواتِ الوهميّةِ التي تأتي من السماء.
لم يعدْ بإمكاني أنْ آخذها معي إلى البيت.
لكنّها تحسّنتْ
وصارتْ تُطعمني بفمها.
17
الطفلةُ التي ماتتْ من البرد
ماذا وضعوا في قبرها
كي لا تشعرَ بالبرد ؟؟
18
لطالما كنتُ مُحرَجاً
عندما كنتُ أتذكّر بصعوبةٍ أناساً يحضنونني بلهفةٍ.
كانَ يؤلمني أن يكونوا طيّبين
ليحضنوا شخصاً ما عادَ يتذكّرهم.
تغيّرتْ حياتي في أوربا كثيراً
وتغيّرتْ ذاكرتي
أصبحتُ
أنا الشخص الذي يصعبُ عليّ لقاؤه
ويُؤلمني تذكُّرهُ.
19
لا أحدَ هنا
لذلك أمشي كلّ يوم إلى المدينة البعيدة
كي أراقبَ الناسَ
وأموتَ همّاً.
20
نتحدّث أنا وأمّي يوميّاً بالهاتف
مثلَ أرملتينِ
في سنواتِ الحداد.
الهاتف
بالنسبة لأمي
مثل سيروم
معلّق
في يدها!.
--------
بوخهولز مدينة صغيرة في شمال ألمانيا.